بسم الله الرحمن الرحيم
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
بداية لقد قصدت تغيير او (تحريف) اسم السورة القرآنية عن عمدٍ، بهدف إثارة الانتباه إلى ان الإنسان قد يقدس ما يتوارثه وُيسخِّف اي شيء آخر حتى لو كان من نفس جنس الشيء المُقدس، ثم ان الزيتون مذكور في الآية الأولى، وكما هو معلوم ان كثيرا من السور قد أعطيت اسماءها بعد وفاة النبي محمد، ومنها ما يزال له اكثر من اسم مثل سورة الممتحنة المذكورة في بعض كتب التراث باسم سورة الامتحان.
يشعر بعض المؤمنين بالرهبة عندما يقرأون القرآن، ومنه السورة محل الموضوع، والتي تبدأ بـوالتين والزيتون، فهاتان الكلمتان يفترض بهما انهما تحويان اعجازا لغويا وبلاغيا بحيث انك لو استبدلت كلمة التين بأي نوع آخر من الفواكه، أو استبدلت الزيتون بأي نوع آخر من المخللات لاختلت بلاغة واعجاز القرآن، تلك البلاغة التي تحدى بها العرب قاطبة، والتي شهد بها كل البشر، باستثناء قلة لا يُعتد بمخالفتها، فبدءا من كفار قريش من العرب الأقحاح وانتهاء بعلماء ناسا من العجم العلوج، لا نجد احد الا وشهد لهذا القرآن بالبلاغة والإعجاز، بل تعدت تلك الشهادات إلى عالم الجن فشهدوا -بعد استماع نفر منهم الى بعض آيات من الذكر الحكيم- أنهم سمعوا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد.
كما ان القرآن تحدى معاشر الإنس والجن ان يأتوا بمثل هذا القرآن، حتى لو كان بعضهم لبعض ظهيرا، أي تعاونوا على ذلك جميعا.
إذن لن نخوض هنا في بلاغة القرآن، فهي أكبر من أن تستوعبها عقولنا الضئيلة، ثم اننا قد اختلط لساننا بعجمة الأجانب ففسدت السليقة، وبالتالي لن نصل، ولن نقف، على روعة وبيان القرآن او جمال معانيه.
ولكن بما ان القران هو كتاب لكل البشر فمن المفترض انه يخطاب عقول الناس جميعا.
يخطابهم بماذا؟
بالاستدلال المنطقى على ان القران هو كتاب من عند الله وان الجنة حق والنار حق والبعث حق.
وهذا ما حدث من خلال سورة التين.
فقد اقسم الله بأشياء من مخلوقاته ليؤكد على حقائق معينة، وبالتالي يصل بنا إلى نتائج منطقية لا جدال فيها.
بداية أقسم الله بـالتين والزيتون
وقد تتساءل لماذا التين والزيتون تحديدا، لماذا لم يقسم بالخيار او البطيخ مثلا؟
والإجابة على هذا السؤال تكون كالتالي:
اولا: السؤال يحمل في جوانبه نوعا من السخرية والاستكبار، فالله لا يُسأل عما يفعل او يقسم به، فكلنا عبيده، يختار ما يشاء ويدع ما يشاء.
ثانيا: حتى لو فكرت يوما وخطر في بالك هذا السؤال، فلا يجب ان تسأله في منتدى كفري والعياذ بالله، بل عليك بسؤال أهل العلم، وقد سألت انا نيابة عنك، او بالأحرى بحثت، فكانت الإجابات تتراوح ما بين المرفوض عقلا والمعلوم بداهة، وخلاصاتها ان التين هو التين الذي نأكله والزيتون هو الزيتون الذي نعصره، اما القسم بهما، فقد يكون بسبب ان التين ينبت في ارض النبي عيسى، والزيتون ينبت في المكان الذي كلم فيه موسى ربه، فناسب ذلك ما اتى بعده من القسم بالبلد الأمين، بلد النبي محمد. بالإضافة، للفوائد الطبية العديدة التي تنتج من خلط التين والزيتون معا بنسب معينه، وقد اسلم فريق طبي ياباني بعد اكتشافه هذا الموضوع، اعني القسم بـالتين والزيتون، وانت حر في ان تصدق ذلك او تكذبه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) وبالمناسبة لقد تم تكذيب هذا البحث الإعجازي المزعوم، لأني أعلم أن هناك من سيسارع الى التأكد من صحة هذه المعلومات عبر الانترنت.
نرجع للسورة
أقسم الله بالتين والزيتون
ثم اقسم بـطور سنين.
لو سمحت .. اترك هذا الموضوع، واذهب وابحث عن مكان طور سنين وأين يقع؟ هل هو جبل سيناء، ام المقصود مكانا آخر.. وعندك تفاسير القرآن.
حمدا لله على السلامة، نرجع للسورة.
أقسم ربنا جل وعلا بالتين والزيتون (لحكمة يعلمها).
وبجبل سينين (لم يوضح تحديدا اين مكانه).
ثم اقسم بهذا البلد الأمين والمقصود مكة بلا خلاف (وهذا نادر الحدوث في تفاسير القرآن).
اقسم على ماذا؟
على
لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم
والمقصود بالإنسان هو كل البشر. واحسن تقويم، في احسن التفاسير، انه يسير على قدميه وباقي البهائم والمخلوقات تسير على اربع ووجها منكب للأرض.
لكننا نشاهد الطيور لا تسير على اربع بل وتتميز عننا انها تطير، كما ان النعامة لا تسير على اربع.
والأهم هو: هل البشر كلهم مخلوقون في احسن تقويم، وماذا عمن يولد بإعاقات مستديمة او بخلقة مشوهة او فاقدا لإحدى الحواس او احد الأطراف.
فبعد القسم العظيم بالتين والزيتون وطور سنين ومكة؛ نجد ان ما اقسم عليه الله ليس متفقا عليه أو مسلما به، بل هو محل نزاع، فليس كل الناس مخلوقين في احسن التقويم، وقد يقول قائل اننا لن نشعر اننا في احسن تقويم الا اذا نظرنا للمعوقين، والإجابة انه كان يكفينا النظر للقرود مثلا لندرك كم نحن مميزون، ولكن بدلا من شرح وتوضيح المقسم عليه نجدنا في آية أخرى، ألا وهي:
ثم رددنا اسفل سافلين
واسفل سافلين قيل انه جهنم، وقيل: ارذل العمر، ولا اعلم العلاقة بين السفالة والشيخوخة، ولكن الأرجح ان اسفل سافلين قُصد به جهنم لأنه استثنى بعد ذلك قائلا:
الا الذين امنوا وعملوا الصالحات، فهم المستثنون من جهنم، وقيل مستثنون من الشيخوخة، فمن يقرأ القرآن لا يصبه الهرم كما قال احد التابعين من السلف الكرام.
وهؤلاء المستثنون لهم اجر غير ممنون اي اجر دائم غير منقوص.
الآن .. انتبه، فلقد اقسم الله ببعض المقسمات، العظيمة او البسيطة، حسبما تراها، على انه خلق الانسان في احسن تقويم -رغم انه ليس كل الناس في احسن تقويم- ثم رده الله لأسفل سافلين، هكذا (خبط لزق) واستثنى الصالحين.
المهم تابع معي حضرتك؛ بعد هذا الاستدلال المنطقي، والحوار العقلي من قبل الخالق مع مخلوقيه في محاولة لإقناعهم
نجده جل وعلا يطرح سؤالا ليس غرضه البلاغي الاستفهام بل الغرض هو الاستنكار.
فيقول عز من قائل:
فما يكذبك بعد بالدين
يعني:
ايها الإنسان الحقير؛ بعد ان اقمنا عليك الحجة عن طريق الاستدلال العقلي والحوار المنطقي، فما الذي يجعلك لا تؤمن؟ ما الذي يجعلك لا تصدق؟ ما الذي يجعلك تنكر يوم البعث، يوم الحساب، يوم الدين.
ما الذي يجعل تكذب بهذا الدين وبما يحتويه من امورٍ غيبية كالبعث والحساب، فبعد ان قرأت قسم الله عز وجل بالتين وبالزيتون وبمكة وبطور سنين؛ وبعد ان قرأت انه خلق الانسان في احسن تقويم (ولاحظوا انها كلها امور في عالم الشهادة والواقع المحسوس)، فكيف تتجرأ وتكفر بالدين وتكفر بيوم الحساب (عالم الغيب)؟
ولكن ماذا نقول؟ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟
المهم، نكمل مع هذه الرحلة الإيمانية المباركة، لنجد ان الله عز وجل يختم الآيات بعد القسم بالمحسوس المشاهد، وبعد التأكيد على كمال خلق الإنسان، وبعد استنكار الرب لتكذيب البعض بيوم الدين، نجده يختم الآيات سائلا سؤالا غرضه هو الإقرار: أليس الله بأحكم الحاكمين.
أليس الله بعد هذه الآيات والدلائل هو الحكيم الذي لا يظلم احدا، (ومن الُسنّة عند الانتهاء من هذه السورة ان تقول: بَلَى؛ وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ).
أي أنك تشهد مقرّا بحكمة الله الذي اقام الحجة عليك واوضح لك منطقية يوم الحساب.
أقام تلك الحجة بماذا؟
للأسف؛ بلا شيء .. لا شيء من المقدمات السالفة الذكر يؤدي الى النتيجة المقررة في نهاية الآيات.
فتلك المقدمات ليس لها علاقة بالنتيجة.
ليس للتين علاقة بيوم الحساب.
ليس لخلق البشر في احسن صورة (وهو محل نزاع) استدلال على حكمة الله المطلقة.
فإذا كنا غير متفقين في المقدمات فكيف نقفز الى النتائج بهذا اليقين؟
ما علاقة امر محسوس مشاهد (كلخق البشر في صورة حسنة) بيوم الحساب.
أوليس القرآن هو معجزة الإسلام الخالدة؟
أوليس العقل هو اعظم هبات الله للإنسان؟
ان اي محاولة فهم لهذه الآيات البسيطة الخالدة عن طريق العقل سوف تؤدي الى عكس النتيجة المطلوبة .. او على الأقل عدم التسليم بصحة هذه النتيجة.
أنا آسف أني أضعت دقائق من وقتك الثمين في قراءة مثل هذا الموضوع، فقد كان الأجدر بك ان تقضي هذا الوقت في قراءة آيات من كتاب الله عز وجل.
يمكنك أن تبدأ الآن.. وحبذا لو تبدأ بسورة التين.. وبتفسيرها.